الاثنين، 9 يونيو 2008

المُلهِم


تجَمَّعوا في ساحةٍ كبيرةٍ في وسط الغابة... مئات الألوف منهم... وربما ملايين ... يرتدون ملابس الرهبان السوداء، ويمسك كلٌ منهم بشعلة متقدة ... يرفعها عاليًا... ينعكس نورها على وجوههم متباينة الألوان فتضيئ بهالاتٍ مختلفة... بيضاء، صفراء، حمراء، سوداء .... تلفح وجوههم رياحٌ ساخنة مختلطة برائحة النار، تتحرك معها نيران المشاعل جميعها في حركةٍ مسرحية في نفس الاتجاه... تكمِّم أفواههم شرائط لاصقة تمنعهم من الكلام ... مكبوتون كانوا، خائفون ومستسلمون ... تُسمَعُ همهماتٌ متفرقةٌ هنا وهناك... وصرخاتٌ شريدةٌ مكتومةٌ لا تقوى على الإنفلات من بين الحناجر المصمتة....



وهناك، من الخلف البعيد يُسمَع قرع طبول ... فيصمت الجميع... يستديرون ليروا مصدر الصوت... إنه يأتي من هناك... من داخل الغابة... الظلام دامس... لايكادون يرون شيئًا... الهواء الثقيل ينقل ذبذبات الصوت من ذلك الاتجاه ... يعلو صوت الطبول شيئًا فشيئًا... يقترب... تتحرك الحشود في اتجاه الصوت... تتزايد همهماتهم ... تتوحد مع وقع أقدامهم التي تضرب الأرض بعنف وقرع الطبول المتسارع... يسيرون معًا إلى الظلام ... يدخلون الغابة... يشتد لفح الرياح الساخنة... الأشجار العالية تلتقط نيران المشاعل، فتشتعل... تتحول الغابة إلى غابةٍ من نار... يعلو لهبها إلى السماء... يسيرون في ثبات في اتجاه الصوت... يتساقط البعض منهم مختنقين أو محترقين ... ويكمل الباقون طريقهم .... تنشق الأرض عن فجواتٍ كبيرة ... تُفتَح فسقط فيها البعض ... ثم تُغلَق ويكمل الباقون طريقهم .... لا أحد يقف ... لا أحد يتراجع ....ويعلو صوت الهمهمات هادرًا ... تتضاءل أمامه أصوات الطبول... يبدو أنهم عرفوا طريقهم في الظلام ... لا ... بل بدأ الفجر ينبلج... تتسارع الخطى ويظهر خيط النور الأبيض في السماء ... ويبدأ المطر في الهطول... تنطفئ نيران الأشجار شيئًا فشيئًا ... ويزيد المطر... يغسل الغابة ... يبزع نور الشمس من بين الأغصان الكثيفة المحترقة ... يركضون ... فالآن قد اتضحت الرؤية...


وهناك في نهاية الغابة، وعند البحيرة يجدونه ملقىً على وجهه وبجواره الطبول ... سقط مع الإعياء ... أثملته نشوة النداء ... حملوه ... رفعوه على الأعناق ... إلى السماء ... وبعد الاحتفال بحثوا عنه كثيرًا فلم يجده أحد ... قال أحدهم :"أذكر أننا ألقيناه لأعلى منذ فترة، ولم ينزل بعدها"....